فصل: تفسير الآيات (27- 28):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (25- 26):

{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (25) لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (26)}
يقول الحق جل جلاله: {ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولُنَّ الله}؛ لوضوح الدليل المانع من إسناد الخلق إلى غيره، فيضطرون إلى الإقرار بذلك، {قل الحمدُ لله} على إلزامهم وإلجائهم إلى الاعتراف بما يوجب بطلان معتقدهم من شرك الأصنام، {بل أكثرهم لا يعلمون} إن ذلك يلزمهم إذا نبهوا عليه، ولم ينتبهوا، فالإضراب عن كلام محذوف، أي: فيجب عليهم أن يعبدوا الله وحده، لمّا اعترفوا، ولكنهم لا يعلمون، {لله ما في السماوات والأرض} ملكاً وعبيداً، {إنَّ الله هو الغنيُّ الحميدُ}، أي: الغني عن حمد الحامدين، المستحق للحمد وإن لم يحمدوه.
الإشارة: قد اتفقت الملل على وجود الصانع. ثم وقفت العقول في مقام الحيرة والاستدلال، وامتدت الأرواح والأسرار بأعناقها إلى معرفة الذات وشهودها، فمن وَجَدَتْ عارفاً كاملاً سلك بها الطريق، حتى أوقعها على عين التحقيق، فأشرفت على البحر الزاخر، فغرقت في بحر الذات وتيار الصفات، ثم رجعت إلى بر الشريعة لتدل غيرها على الوصول. وقل الحمد لله أَنْ وَجَدْتَ من يعرفك بالله، وأكثر الخلق حائدون عن العلم بالله.

.تفسير الآيات (27- 28):

{وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (27) مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (28)}
قلت: {ولو أنما في الأرض}: مذهب الكوفيين وجماعة: أن ما بَعد {لو}: فاعل بفعل محذوف، أي: ولو ثبت كون ما في الأرض.. إلخ. ومذهب سيبويه: أنه مبتدأ، أي: ولو كون ما في الأرض واقع، و{البحر}: مبتدأ، و{يمده}: خبره، أي: يمد ما ذكر من الأقلام. و{من بعده سبعةُ أبحر}: مبتدأ وخبر. وحذف التمييز، أي: {مداداً}، يدل عليه {يمده}، أو {سبعة}: فاعل {يمده}، أي: يصب فيه سبعةُ أبحر، والجملة: حال، أي: ولو أن الأشجار أقلام، في حال كون البحر ممدوداً، ما نفذت... إلخ. وجملة {يمده}: خبر {البحر}. ومن قرأ بالنصب فعطف على اسم إن، وهو {ما}.
يقول الحق جل جلاله: {ولو أنّ ما في الأرض من شجرة} من الأشجار {أقلام}، والبحر يمد تلك الأقلام، يصب في ذلك البحر {سبعةُ أبحر}، وتلك الأقلام كلها تكتب كلمات الله الدالة على عظمته وكمالاته، {ما نَفِدَتْ} كلماته، ونفدت الأقلام، وجفت تلك الأبحر، وهذا كقوله: {قُل لَّوْ كَانَ البحر مِدَاداً لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ البحر قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي} [الكهف: 109] مع زيادة المبالغة بذكر السبعة أبحر، يقال: مد الدواة وأمدها: جعل فيها مداداً، فجعل البحر الأعظم بمنزلة الدواة، والأبحر السبعة مدادها، وفروع الأشجار كلها أقلام تكتب كلماته تعالى، فلو قدر ذلك لتكسرت الأقلام وجفت الأبحر، قبل ان تنفد كلماته تعالى؛ لأنها تابعة لعلمه، وعلمه لا نهاية له.
وإنما وحدَّ الشجرة؛ لأن المراد تفصيل الشجر وتقَصِيها؛ شجرة شجرة، حتى ما يبقى من جنس الشجر، ولا واحدة إلا وقد بُريت أقلاماً. وأوثر الكلمات، وهي من حيز جمع القلة، على الكَلِم، الذي هو جمع الكثرة؛ لأن المعنى: أن كلماته لا يفي بها الأقلام؛ فكيف بكلامه الكَثير؟.
{إن الله عزيزٌ} لا يُعجزه شيء، {حكيم} لا يخرج عن علمه وحكمته شيء، فلا تنفد كلماته وحكمته. والآية جواب اليهود، سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، إن قلنا: الآية مدنية، أو: أَمروا وَفد قريش أن يسألوه عن قوله: {وَمَآ أُوتِيتُم مِّن العلم إِلاَّ قَلِيلاً} [الإسراء: 85]، فقالوا: هل عنيتنا أمْ قومك؟ فقال صلى الله عليه وسلم: «كُلاّ قد عنيت» فقالوا: أليس فيما قد أوتيت أنَّا قد أُوتينا التوراة، فيها علم كل شيء؟ فقال صلى الله عليه وسلم: «هي في علم الله قليل»، فأنزل الله: {ولو أنما...} إلخ.
ولما ذكر شأن كلامه وعلمه؛ ذكر شأن قدرته، فقال: {ما خلْقُكُمْ ولا بعثُكُم إلا كنَفْسٍ واحدةٍ}، أي: إلا كخلق نفس واحدة، وبعث نفس واحدة. فحُذف، للعلم به، أي: القليل والكثير في قدرة الله تعالى سواء، فلا يشغله شأن عن شأن، وقدرته عامة التعلق، تَنْفُذُ أسرع من لمح البصر.
قال الغزالي في الإحياء: ومن غريب حِكَم الآخرة أن الرجل يُدعى به إلى الله تعالى، فيُحاسب ويُوبخ، وتُوزن له حسناته وسيئاته، وهو في ذلك كله يظن أن الله لم يحاسب إلا هو، ولعل آلاف آلاف ألف مثله في لحظة واحدة. وكل منهم يظن ظنه، لا يرى بعضهم بعضاً، ولا يسمعه، وهو قوله تعالى: {ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة}. اهـ.
{إن الله سميع} لقول من يُنكر البعث من المشركين، {بصيرٌ} بأعمالهم، فيجازيهم.
الإشارة: أوصاف الباري سبحانه كلها كاملة، غير محصورة ولا متناهية؛ من علم، وقدرةٍ، وإرادة، وكلام، وغيرها. وأوصاف العبد كلها قصيرة متناهية، وقد يمد الحقُّ عبده بصفة من صفاته التي لا تتناهى، فإذا أمده بصفة الكلام تكلم بكلام تعجز عنه العقول، لا يقدر على إمساكه، فلو بقي يتكلم عمرَه كله ما نفد كلامه، حتى يُسكته الحق تعالى. وقد كان بعض السادات يقول لأصحابه، حين يتكلم عليهم: إني لأستفيد من نفسي كما تستفيدون أنتم مني، وذلك حين الفيض الإلهي. وإذا أمده بصفة القدرة، قدر على كل شيء، وإذا أمده صفة السمع؛ سمع كل شيء، وإذا أمده بصفة البصر، أبصر كل موجود... وهكذا. وهذه الأوصاف كامنة في العبد من حيث معناه، احتجبت بظهور أضدادها؛ صوناً لسِّر الربوبية. والله تعالى أعلم.

.تفسير الآيات (29- 32):

{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (29) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (30) أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَةِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آَيَاتِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (31) وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآَيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ (32)}
يقول الحق جل جلاله: {ألم تَرَ أن الله يُولج الليلَ في النهارِ}؛ يُدخل ظلمة الليل في وضوء النهار، إذا أقبل الليل، {ويُولج النهارَ في الليل}؛ يُدخل ضوء النهار في ظلمة الليل، إذا أقبل النهار. أو: بإدخال جزء أحدهما في الآخر؛ بزيادة الليل أو النهار. {وسخَّر الشمسَ والقمرَ} لمنافع العباد، {كلٌّ}، أي: كل واحد من الشمس والقمر {يجري} في فلكه، ويقطعه، {إلى أجل مُسَمّى}؛ إلى يوم القيامة: أو: إلى وقت معلوم للشمس، وهو تمام السنة، والقمر إلى آخر الشهر. {وإن الله بما تعملون خبير}؛ عالم بكنهه، لا يخفى عليه شيء. فدل، بتعاقب الليل والنهار، أو بزيادتهما ونقصانهما، وَجَرْي النيرين في فلكهما، على تقدير وحساب معلوم، وبإحاطته جميع أعمال الخلق، على عظيم قدرته، وكمال علمه وحكمته.
{ذلك} شاهد {بأن الله هو الحقُّ}، وما سواه باطل، {وأن ما تدعون من دونه الباطل}؛ المعدوم في حد ذاته، لا حقيقة لوجوده. أو: ذلك الذي وصف بما وصف به، من عجائب قدرته وباهر حكمته، التي يعجر عنها الأحياء القادرون العالمون، فكيف بالجماد الذي يدعونه من دون الله؟ إنما هو بسبب أنه الحق الثابت الإلهية، وأن مَن دونه باطل ألوهيته، {وأن الله هو العلي الكبير}، أي: العلي الشأن، الكبير السلطان.
{ألم تَرَ أن الفلكَ}؛ السفن {تجري في البحر بنعمةِ الله} بإحسانه ورحمته، أو: بالريح، لأن الريح من نعم الله. أو: ما تحمله السفن من الطعام والأرزاق والمتاع، فالباء، حينئذٍ، للأرزاق، وهو استشهاد آخر على باهر قدرته، وكمال حكمته، وشمول إنعامه. {ليُريَكم من آياته}؛ من عجائب قدرته في البحر إذا ركبتموه، {إن في ذلك لآياتٍ} دالة على وحدانيته وكمال صفاته؛ {لكل صبَّارٍ} في بلائه، {شكورٍ} لنعمائه. وهما من صفة المؤمن. فالإيمان نصفان، نصف شكر ونصب صبر، فلا يَعْتَبِرُ بعجائب قدرته إلا من كان هكذا.
{وإِذا غَشِيَهُم}، أي: الكفار، أي: علاهم وغطاهم {موجٌ كالظُّلَلِ}، أي: كشيء يظل؛ من جبل، أو سحاب، أو غيرهما، فالموج الكبير يرتفع فيعود كالظلل؛ جمع ظُلة، وهو ما أظلك من جبل أو سقف. فإذا غشيهم ذلك؛ {دَعَوُاْ الله مخلصين له الدينَ}، لا يدعون معه غيره، لزوال ما ينازع الفطرة بالقهرية. {فلما نجاهم إلى البر فمنهم مقْتَصِدٌ}؛ مقيم على الطريق القصد، باقٍ على الإيمان، الذي هو التوحيد، الذي كان منه في حال الشدة، لم يعد إلى الكفر، أو: متوسط في الظلم والكفر، انزجر بعض الانزجار. ولم يَغْلُ في الكفر والعدوان. أو مُقْتَصِدٌ في الإخلاص الذي كان عليه في البحر، يعني: أن ذلك الإخلاص لحادث عند الخوف لا يبقى لأحد قط، إلا النادر، {وما يجحد بآياتنا} أي: بحقيقتها {إلا كل ختَّارٍ}؛ غدار.
والختْر: أقبح الغدر، {كفورٍ} لنعم ربه. وهذه الكلمات متقابلة؛ لفظاً ومعنى، فَخَتَّارٌ: مقابل صبّار، وكفور: مقابل شكور؛ لأن من غدر لم يصبر، ومن كفر لم يشكر. والله تعالى أعلم.
الإشارة: ألم تر أن الله يُولج ليل القبض في نهار البسط، ونهار البسط في ليل القبض، فهما يتعاقبان على العبد تعاقب الليل والنهار، فإذا تأدب مع كل واحد منهما؛ زاد بهما معاً، وإلا نقص بهما، أو بأحدهما. فآداب القبض: الصبر والرضا، والسكون تحت مجاري الأقدار. وآداب البسط: الحمد، والشكر، والإمساك عن الفضول في كل شيء. وسخَّر شمس العيان وقمر الإيمان، كلٌّ يجري إلى أجل مسمى؛ فقمر الإيمان يجري إلى طلوع شمس العرفان، وشمس العرفان إلى ما لا نهاية له من الأزمان. ذلك بأن الله هو الحق، وما سواه باطل. فإذا جاء الحق، بطلوع شمس العيان، زهق الباطل، إن الباطل كان زهوقاً. وإنما أثبته الوهم والجهل. ألم تر أن سفن الأفكار تجري في بحار التوحيد، لترى عجائب الأنوار وغرائب الأسرار، من أنوار الملكوت وأسرار الجبروت؟ إن في ذلك لآياتٍ لكل صبَّار على مجاهدة النفس، شكور على نعمة الظَّفَرِ بحضرة القُدُّوسِ.
وإذا غشيهم،، في حال استشرافهم على بحر الحقيقة، موج من أنوار ملكوته، فكادت تدهشهم، تضرعوا والتجأوا إلى سفينة الشريعة، حتى يتمكنوا فلما نجاهم إلى بر الشريعة، فمنهم مقتصد؛ معتدل بين جذب وسلوك، بين حقيقة وشريعة، ومنهم: غالبٌ عليه السكر والجذب، ومنهم: غالب عليه الصحو والسلوك. وكلهم أولياء الله، ما ينكرهم ويجحدهم إلا كل ختَّار جاحد. قال القشيري: {وإذا غشيهم موج كالظلل}؛ إذا تلاطمت عليهم أمواجُ بحارالتقدير، تمنوا أن تلفظهم تلك البحارُ إلى سواحل السلامة، فإذا جاء الحقُّ بتحقيق مُناهم عادوا إلى رأس خطاياهم.
فَكَمْ قدْ جَهِلْتُمْ ثم عُدْنا بِحِلْمِنَا ** أَحِبَّاءَنَا كَمْ تَجْهَلُونَ وَنَحْلُمُ

.تفسير الآيات (33- 34):

{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (33) إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (34)}
قلت: {بأي أرض}؛ قال في المصباح: الأفصح: استعمال أي في الشرط والاستفهام بلفظ واحد، للمذكر والمؤنث، وعليه قوله تعالى: {فَأَيَّ آيَاتِ الله تُنكِرُونَ} [غافر: 81]، وقد تطابق في التذكير والتأنيث، نحو أَيُّ رَجُلٍ، وأي وأية امرأة. وفي الشاذ: بأية أرض تموت. اهـ.
يقول الحق جل جلاله: {أيها الناس اتقوا ربكم}؛ اجعلوا بينكم وبين غضبه وقاية، بطاعته وترك معصيته. {واخشوا يوماً لا يجزي والدٌ عن ولده} شيئاً، لا يقضى عنه شيئاً، ولا يدفع عنه شيئاً. والأصل: لا يجزى فيه، فحذف. {ولا مولودٌ هو جازٍ عن والده شيئاً}، وتغيير النظم في حق الولد، بأن أكده بالجملة الاسمية وبزيادة لفظ {هو}، وبالتعبير بالمولود؛ للدلالة على حَسْمِ أطماعهم في أن ينفعوا آبائهم الذين ماتوا على الكفر؛ بالشفاعة في الآخرة. ومعنى التأكيد في لفظ المولود: أن الواحد منهم لو شفع للأب الأدنى الذي ولد منه لم تقبل منه، فضلاً عن أن يشفع لأجداده، لأن الولد يقع على الولد وولد الولد، بخلاف المولود؛ لأنه لِمَا وُلِدَ منك. كذا في الكشاف. قلت: وهذا في حق الكفار، وأما المؤمنون؛ فينفع الولد والده، والوالد ولده بالشفاعة، كما ورد في قارئ القرآن والعالمِ، وكل من له جاه عند الله، كما تقدم في سورة مريم.
ثم قال تعالى: {إِنَّ وعدَ الله} بالبعث والحساب والجزاء، {حقٌّ} لا يمكن خلفه، {فلا تغرنكم الحياةُ الدنيا}؛ بزخارفها الغرارة؛ فإِنَّ نعمها دانية، ولذاتها فانية، فلا تشغلكم عن التأهب للقاء، بالزهد فيها، والتفرغ لِمَا يرضي الله، من توحيده وطاعته، {ولا يغُرُّنَّكم بالله}، أي: لا يعرضنكم لخطر الغرة بالله وبحلمه، أو: لا يوقعنكم في الجهل بالله والغرة به، {الغرورُ} أي: الشيطان، أو: الدنيا، أو: الأمل. وفي الحديث: «الكيسَ من دَانَ نَفسَهُ وعَمِلَ لَمَا بَعْدَ المَوْتِ، والأحمقُ من أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا، وتمنَّى عَلَى الله الأمَاني» وفي الحديث أيضاً: «كَفَى بخشية الله علماً، وبالاغترار به جهلاً».
{إن الله عنده علمُ الساعة} أي: وقت قيامها، فلا يعلمه غيره، فتأهبوا لها، قبل أن تأتيكم بغتة. {ويُنزل الغيث}: عطف على ما يقتضيه الظرف من الفعل، أي: إن الله يُثبت عنده علم الساعة، ويُنزل الغيث في وقته، من غير تقديم ولا تأخير، وفي محله، على ما سبق في التقدير، ويعلم كم قطرة ينزلها، وفي أي بقعة يمطرها. {ويعلم ما في الأرحام}؛ أذكر أم أنثى، أتام أم ناقص، وشقي أو سعيد، وحسن أو قبيح. {وما تدري نفس ماذا تكْسِبُ غداً} من خير أو شر، ووفاق وشقاق، فربما كان عازمة على الخير فعملت شراً، أو على شر فعملت خيراً. {وما تدري نفس بأي أرضٍ تموتُ} أي: أين تموت، فربما أقامت بأرض، وضربت أوتادها، وقالت: لا أبرحُها، فترمي بها مرامي القدر حتى تموت بمكان لم يخطر ببالها.
رُوي أن ملك الموت مرَّ على سليمان عليه السلام فجعل ينظر إلى رجل من جلسائه، فقال الرجل: مَن هذا؟ فقال: ملك الموت، فقال: كأنه يُريدني، فسأل سليمانَ أن يحمله الريح ويلقيه ببلاد لهند، ففعل، ثم قال ملك الموت لسليمان: كان دوام نظري إليه تعجباً منه، لأني أُمرت أن أقبض روحه بالهند، وهو عندك. اهـ.
وجعل العلم لله والدرايةَ للعبد، لِمَا في الدراية من معنى التكسب والحيلة، فهذه الأمور الخمسة قد اختص الله بعلمها. وأما المنجم الذي يُخبر بوقت الغيث والموت؛ فإنه يقول بالقياس والنظر في المطالع، وما يُدرَك بالدليل لا يكون غيباً، على أنه مجرد الظن، والظن غير العلم. وعن ابن عباس: من ادعى علم هذه الخمسة فقد كذب. وجاءه يهودي منجم، فقال: إن شئت أنبأتك أنه يحم ابنك ويموت بعد عشرة أيام، وأنت لا تموت حتى تعمى، وأنا لا يحول عليّ الحول حتى أموت. قال له: أين موتك؟ قال: لا أدري، فقال ابن عباس: صدق الله: {وما تدري نفس بأي أرض تموت}. ورأى المنصورُ في منامه ملك الموت، وسأله عن مدة عمره، فأشار بأصابعه الخمس، فعبرها المعبرون بخمس سنين، وبخمسة أشهر وبخمسة أيام. فقال أبو حنيفة رضي الله عنه: هو إشارة إلى هذه الآية، فإن هذه العلوم الخمسة لا يعلمها إلا الله. اهـ.
وقال شيخ شيوخنا، سيدي عبد الرحمن الفاسي في حاشيته: قيل: أن الله تعالى يعلم الأشياء بالوَسم والرسم، والرسم يتغير، والوسم لا يتغير، فقد أخفى الله تعالى الساعة، ولم يخف أمارتها، كما جاء عن صاحب الشرع. وكذا قد يطلع أولياءه على بعض غيبه، ولكن لا من كل وجوهه، فقد يعلم نزول المطر من غير تعين وقته واللحظة التي ينزل فيها ومقداره، وبالجملة فعلمُ ما يكون من الخواص، جُملة لا تفصيلي، وجزئي لا كُلي، ومقيد لا مطلق، وعرضي لا ذاتي، بخلاف علمه تعالى. اهـ.
قال المحلي: روى البخاري؛ عن ابن عمر حديث مفاتح الغيب الخمس: {إن الله عنده علم الساعة...} إلى آخر السورة.. ونقل ابن حجر عن ابن أبي جمرة، بعد كلام، ما نصه: والحكمة في جعلها خمسة: الإشارة إلى حصر العوالم فيها، ففي قوله: {ما تغيض الأرحام}: الإشارة إلى ما يزيد في الإنسان وما ينقص. وخص الرحم بالذكر، لكون الأكثر يعرفونها بالعادة، ومع ذلك فنفى أن يعرفها أحد بحقيقتها، فغيرها بطريق الأولى. وفي قوله: لا يعلم متى يأتي المطر: إشارة إلى أمور العالم العلوي، وخص المطر مع أن له أسباباً قد تدل على وقوعه، لكنه من غير تحقيق. وفي قوله: «لا تدري نفس بأي أرض تموت»: إشارة إلى أمور العالم السفلي، مع أن عادة أكثر الناس أن يموت ببلده، ولكن ليس ذلك حقيقة، وإن مات ببلده لا يعلم بأي بقعة يُدفن فيها، ولو كان هناك مقبرة لأسلافه، بل قبر أعده هو له.
وفي قوله: «ولا يعلم ما في غد إلا الله»: إشارة إلى أنواع الزمان، وما فيها من الحوادث، وعبَّر بلفظ {غدٍ}؛ لكون حقيقته أقربَ الأزمنة إليه، وإذا كان مع قربه لا يعلم حقيقة ما يقع فيه، مع إمكان الأمارة والعلامة، فما بعدُ عنه أولى. وفي قوله: «متى تقوم الساعة إلا الله»؛ إشارة إلى علوم الآخرة، فإن يوم القيامة أولها، وإذا نفى علم الأقرب انتقى علم ما بعدُ، فجمعت الآية أنواع الغيوب، وأزالت جميع الدعاوى الفاسدة. وقد بيّن في قوله تعالى، في الآية الأخرى، وهي قوله: {فَلاَ يُظْهِرُ على غَيْبِهِ أَحَداً إِلاَّ مَنِ ارتضى} [الجن: 26، 27] الآية، أن الإطلاع على شيء من هذه الأمور لا يكون إلا بتوقيف. ه ملخصاً.
والحاصل: أن العوالم التي اختص الله بها خمسة: عالم القيامة وما يقع فيه، والعالم العلوي وما ينشأ منه، وعالم الأرض وما يقع فيه، وعالم الإنسان وما يجري عليه، وعالم الزمان وما يقع فيه. {إن الله عليم خبير} عليم بالغيوب، خبير بما كان وبما يكون. وعن الزهري: أَكْثِرُوا من قراءة سورة لقمان؛ فإن فيها أعاجيب. اهـ.
الإشارة: يا أيها الناس المتوجهون إلى الله، إنَّ وَعْدَ الله بالفتح، لمن أنهض همته إليه، حق، فلا تغرنكم الحياة الدنيا بأشغالها، عن النهوض إليها، ولا يغرنكم بكرم الله الشيطانُ الغرور، فيغركم بكرم الله، ويصرفكم عن المجاهدة والمكابدة؛ إذ لا طريق إلى الوصول إلا منهما، إن الله عنده علم الساعة التي يفتح عليها العبد فيها، وينزل غيث المواهب والواردات، ويعلم ما في أرحام الإرادة، من تربية المعرفة واليقين، وما تدري نفس ماذا تكسب غداً من زيادة الإيمان ونقصانه، وما تلقاه من المقادير الغيبية، فيجب عليها التفويض والاستسلام، وانتظار ما يفعل الله بها في كل غد، وما تدري نفس بأي أرض من العبودية تموت فيها، إن الله عليم خبير.
قال القشيري: في قوله: {يا أيها الناس اتقوا ربكم}: خوّفهم، تارةً، بأفعاله، فيقول: {اتقوا الله} [البقرة: 48 وغيرها]، وتارة بصفاته، فيقول: {أَلَمْ يَعْلَم بِأَنَّ الله يرى} [العلق: 14]، وتارة بذاته، فيقول: {وَيُحِذِّرُكُمُ الله نَفْسَهُ} [آل عمرآن: 28]. اهـ. وبالله التوفيق، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلى الله على سيدنا محمد وآله.